ثقافة فيلم "كل ما نتخيله كضوء" لبايال كاباديا: الجائزة الكبرى لمهرجان كان: كل ما نتمناه من ضوء... بقلم الناقد طاهر الشيخاوي
بقلم الناقد طاهر الشيخاوي
لم تُثر قائمة جوائز المسابقة الرسمية جدلا كبيرا، فالاجماع كاد يكون تامّا حول قيمة الأفلام الفائزة. أمّا النقاش فدار حول الترتيب التي تم على أساسه توزيع الجوائز. الكثير من النقاد والمتابعين كانوا ينتظرون أن تمنح السعفة الذهبية لمحمد رسولوف. وهناك آخرون فضّلوا الفيلم الهندي "كل ما نتخيله كضوء" لصاحبته بايال كاباديا.
أمّا فيما يخصّني شخصيّا فأشاطر رأي هؤلاء لأنّ "كل ما نتخيله كضوء" (لنتوقف في هذا الجزء من قراءة الجوائز على هذا العمل) فيلم يستحق فعلا الجائزة الأولى على الأقل لسببين أساسيين ان لم نقل لثلاثة أسباب.
السبب الأوّل يتعلّق بالعمل ذاته :
بايال كاباديا مخرجة هندية من مواليد سنة 1986، كانت تحصلت على العين الذهبية سنة 2021 بشريطها الوثائقي "ليلة كاملة دون علم"، كشفت فيه ملامح عالمها شكلا (مزج لطيف ومتميّز بين الوثائقي والروائي) ومضمونا (المسألة النسوية والمجتمع). "كل ما نتخيله كضوء" هو أوّل فيلم طويل روائي لها، فيلم رائع لأنّه، في معادلة عكسية لشريطها الأول، لا يتخفى وراء جانبه الوثائقي كما نلاحظه غالبا في العديد من الأفلام الروائية التي تدّعي في نفس الوقت تناول قضايا اجتماعية. فلم يكن البعد الوثائقي متكأً لمنح مشروعية لخطاب اجتماعي أو سياسي مزعوم بل هو الدّم المغذّي لشرايين العمل.
فمنذ البداية، تمسح الكاميرا شوارع المدينة المكتظة بالباعة والمارّة ثمّ تنتقل بنا إلى داخل حافلة نتعرف فيها على برابها، الشخصية الرئيسية، دون اللجوء إلى الأساليب المعهودة. فلمّا تلتقطها الكاميرا لا تلتجئ المخرجة إلى أي نوع من أنواع البروتوكولات التي تضفي عليها طابعا استثنائيا بل يخيّل لنا أنّها واحدة من الشخصيات العابرة، مجرد كمبارس لا يميّزها شيء عن الناس العاديين، مارين أو مسافرين. ثم ندرك فيما بعد أنّها الشخصية التي سنتابع الأحداث من خلال عينيها.
ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ فسرعان ما نتعرّف على شخصيتين أخريين لا تقل أهميتهما على برابها، أناتو وبارفاتي، هما أيضا تشتغلان في نفس المستشفى واحدة كممرضة والأخرى في المطبخ، تقطنان بنفس المنزل. ينتمين إلى جيلين مختلفين. ثلاث نساء يختلفن في سنّهن وفي طبعهن وفي تصرفاتهن، وفي نفس الوقت يشتركن في وضعهن الاجتماعي والعاطفي. يتعرضن لنفس العراقيل ويحملن نفس الآلام والأحلام. كل ذلك نلمسه من خلال إشارات تصلنا بلطف ورقة دون أي ضغط أو إصرار بعيدا عن أي شكل من أشكال الابتزاز العاطفي.
السبب الثاني هو أنّ هذا الفيلم أفضل عمل يمثّل ما أبرزته هذه الدورة في المشهد السينمائي العالمي : حركات رشيقة قادمة من وراء حدود سينما المؤلف السائدة، تحمل أجود ما يمكن للفن السابع أن ينقله لنا عن عالمنا. يمكن على سبيل المثال لا الحصر ذكر شريط راول بيك "ارنست كول" أو "القرية المجاورة للجنة" لماو هاراوي أو"رفعت عيني للسما" لندى رياض وأيمن الأمير وكنا تعرضنا، ولو بسرعة، إلى هذه الأفلام. تعبيرات جديدة لقضايا حارقة في مجتمعات تهزها حركية اجتماعية وثقافية عميقة ذات أبعاد كونية.
الكل يعرف أنّ رسالة مهرجان كان الأولى ليست اكتشاف المواهب القادمة من "العالم الثالث" ومن الغباء مطالبته بذلك. لكن يكفي الانتباه قليلا (والقائمون على برمجة المهرجان لهم من الانتباه ما يسمح بذلك إلى حدّ ما) لما يطفو على سطح سينمات الحواشي والضواحي لكي ندرك أنّ هناك تعبيرات جديدة نابعة من واقع متحرك تجاوزت مواطن ولادتها، بلغت إشاراتها مهرجان كان بفضل قلّة من المخرجين الذين توفقوا في امتلاك اللغة السينمائية. حتى أنّ أكثر المخرجين انتباها، أروبيين كانوا أو أمريكيين، اتجهوا إلى هذه الهوامش فقدّموا الأفضل كـ"قصّة سليمان" لبوريس جوسكين الذي مكّن أبو سنغار من الفوز بجائزة أحسن ممثل.
يمكن أن نضيف سببا ثالثا وهو أنّ محور الدورة دار حول قضايا النساء و"كلّ ما نتخيله من ضوء" توفّق أيما توفيق في تناول علاقة النساء ببعضهن البعض وعلاقتهن بالمجتمع بطريقة بعيدة عن المباشرية السطحية، فيها من العمق والأناقة ما لا يترك أعيننا وأذاننا تنغلق لحظة أمام ما تعيشه النساء أينما كنّ.